قبل سبعة أشهر، جلست إلى الطاولة الصغيرة في المطبخ، في شقتي المصممة على طراز الستينيّات، في الطابق الأخير لبنايةٍ في حي نابض بالحياة وسط طهران. وفعلت شيئًا فعلته آلاف المرّات سابقًا. فتحت اللابتوب ونشرت شيئًا في مدوّنتي الجديدة. لكن مع ذلك، كانت هذه التدوينة الأولى منذ ست سنوات، وكادت أن تحطَّمَ قلبي.
قبل بضعة أسابيع، كنت قد نلت العفو وتحررت فجأةً من سجن إيفِن شمال طهران. كنت أتوقعُ أن أقضي جُلّ حياتي في تلك الزنازين. في نوفمبر 2008 تم الحكم علي بعشرين عامًا في السجن، غالبًا، لأشياء كتبتها على مدوّنتي.
لم تكن لحظة الإفراج متوقعة. دخّنتُ سيجارة في المطبخ مع أحد رفاقي السجناء، ومن ثم عدتُ إلى الغرفة التي شاركتها مع عشرات الرجال الآخرين. كنا نشرب الشاي معًا عندما أعلن مذيع المهجع –وهو سجين أيضًا- في جميع الغرف والممرّات بصوته الجهوريّ ما يلي: «أعزائي زملاء السجن، لقد حطّ طائر الحظ مرةً أخرى على كتف أحد الزملاء. سيدّ حسين ديراخشان، من هذه اللحظة، أنت حرّ».
تلك الليلة كانت المرة الأولى التي أخرج فيها من أبواب السجن رجلًا حرًّا. كل شيء بدا جديدًا: قشعريرة نسيم الخريف، ضجيج المركبات القادم من جسرٍ قريب، الرائحة، ألوان المدينة التي عشت فيها معظم أيام حياتي.
حولي، لاحظت طهران أخرى غير التي أعرفها؛ سيلٌ من الشقق الجديدة، الفاخرة ببذخ، حلّتْ محل البيوت الصغيرة الساحرة التي كنت معتادًا عليها. طرقٌ جديدة، طرقٌ سريعة، جحافل من سيارات الـSUV العدوانيّة. لوحات كبيرة بإعلانات لساعات سويسرية الصنع وتلفزيونات كورية مسطّحة الشاشة. نساء بأوشحة ومعاطف ملوّنة، رجال بشعور وذقون مصبوغة، ومئات المقاهي الساحرة التي تذيع موسيقى غربية عصرية وتوظّف الإناث. كانت تلك تغييرات من النوع الذي يتسلّل إلى الناس؛ النوع لا تلاحظه إلا عندما تُختطف منك الحياة الطبيعية.
بعد أسبوعين، بدأتُ بالكتابة مجدّدًا. وافق بعض الأصدقاء على أن أبدأ مدوّنةً كجزء من مجلّاتهم الفنيّة. أسميتها «Ketabkhan»، التي تعني «قارئ كتب» بالفارسيّة.
في السجن، كانت ست سنواتٍ مدة طويلة . لكن على الإنترنت، كانت حقبة بأسرها. الكتابة على الإنترنت، بذاتها، لم تختلف. لكنّ القراءة، أو على الأقل، عملية أن تجعلَ الأشياء مقروءة، تغيّرتْ بدراماتيكيّة. قيل لي كم أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي ضرورية عندما كنت غائبًا. لذا، عرفت شيئًا واحدًا: إذا أردتُ أن أشُدّ الناس لرؤية كتاباتي، علي أن أستخدم هذه الشبكات الآن.
لذا، حاولتُ أن أنشر رابطًا على حسابي في فيسبوك. لكن تبيّن لي أن فيسبوك لم يكترث كثيرًا. لقد بدا، في النهاية، كأنه إعلان مخصّص مملّ؛ لا وصف. لا صورة. لا شيء. حصلتُ على ثلاثة إعجابات. ثلاثة فحسب!
في تلك اللحظة، أصبح الأمر واضحًا بالنسبة لي: الأمور تغيّرتْ. لم أكن مُعَدًّا للخوض في ذلك الحقل الجديد. كل محاولاتي وجهودي ذهبتْ سدى، وشعرت بأنني مدمّر.
حين اعتقلت في 2008، كانت المدوّنات في عصرها الذهبي، وكان المدوّنون مثل نجوم الروك. في تلك المرحلة، بعيدًا عن حقيقة أن الحكومة كانت تحظر الولوج إلى مدوّنتي من داخل إيران، كان لدي حول عشرين ألف زائر يوميًّا. كلُّ شخص أشرت إليه برابط في مدوّنتي كان من الممكن أن يتعرّض لارتفاع مفاجئ وشديد في الإقبال: كنت قادرًا على تمكين أو إرباك أي شخص أريد.
كانت الناس تقرأ منشوراتي بتمعّن، وتترك الكثير من التعليقات المرتبطة بالموضوع. حتى من كانوا يختلفون معي بشدّة، كانوا يقرؤون بعمق. والعديد من المدوّنات الأخرى أشارتْ لمدوّنتي كي تناقش ما أقوله. شعرتُ بأنني ملك.
كان عُمْر الآي فون وقتها يزيد عن العام قليلاً، لكنّ الهواتف الذكية كانت ما تزال تستخدم غالبًا للقيام بالمكالمات وإرسال الرسائل القصيرة، تمرير الإيميلات، والولوج للشبكة. لم تكن هناك تطبيقات فعلية، ليس كما نفهمها اليوم. لم يكن هناك إنستغرام ولا سناب تشات ولا فايبر ولا واتسآب.
بدلاً من ذلك، كانت هناك الشبكة، وعلى الشبكة كانت هناك المدوّنات: أفضل مكان لإيجاد أفكار، وأخبار، وتحليلات بديلة. هذه المدوّنات كانت حياتي. لقد بدأ كل شيء مع أحداث 9/11. كنت في تورونتو، وأبي عاد للتوّ من زيارة لطهران. كنا نتناول الإفطار عندما اصطدمتْ الطائرة الثانية ببرج التجارة العالمي. كنت مشوّشًا وحائرًا، وبهدف البحث عن رؤىً وتفسيرات، صادفت المدوّنات. وبعد أن قرأت بعضها، فكّرت: وجدتها، عليّ أن أبدأ واحدة، وأشجع كل الإيرانيين ليبدؤوا التدوين أيضًا. بدأت بالتجريب باستخدام برنامج نوت باد على الويندوز. وسريعًا ما انتهى بي الأمر للكتابة على hoder.com باستخدام منصّة نشر بلوغر قبل أن تشتريه غوغل.
بعدها، في 5/11/2001، نشرت دليلاً يتكون من خطوات لكيفيّة بدء مدوّنة. هذا أثار شيئًا، عُرف فيما بعد بـ«ثورة تدوين»: سريعًا، مئات وآلاف الإيرانيين جعلوا من إيران واحدة من أعلى خمسة بلدان في عدد المدوّنات، وكنت فخورًا لأخذي دورًا في عملية دمْرقطة الكتابة غير المسبوقة.
في تلك الأيام، كنت أحتفظ بقائمة بكل المدوّنات الفارسيّة، ولبعض الوقت، كنت أول من يتواصل معه أيُّ مدوّن إيرانيّ جديد، ومن ثم يُضَمّ إلى القائمة. لهذا أسمَوني «أبو المدوَّنة» في منتصف عشرينيّاتي. كان لقبًا سخيفًا، لكنه، في النهاية، أشار إلى مدى اهتمامي للأمر.
كل صباح، من شقتي الصغيرة في وسط مدينة تورونتو، كنت أفتحُ حاسوبي وأرعى المدوّنات الجديدة؛ ساعدتهم في الانتشار واكتساب المتابعين. كانت مجموعة غنيّة – من كتّاب منفيّين وصحافيين، نساء تكتبن اليوميّات، وخبراء تكنولوجيا إلى صحافيين محليين، سياسيّين، رجال دين، وقدامى المحاربين – ودائمًا ما شجّعتُ المزيد. دعوتُ رجالاً ونساء متديّنين، وإسلاميين جمهوريّين مُوَالين، أُناسٌ عاشوا داخل إيران، للانضمام والبدء في الكتابة.
إن اتساع الإمكانات المتاحة وقتها أذهلنا. كان هذا، جزئيًّا، سبب ترويجي الشديد للمدوّنات. كنتُ غادرتُ إيران في نهاية العام 2000 لاختبار العيش في الغرب، وكنت خائفًا من ألّا أظل متابعًا لما يستجد من ميول وتيارات في الوطن. لكنّ قراءة المدوّنات الإيرانية في تورونتو، كانت أشبه بالجلوس في تاكسي مشتَرَك في طهران والاستماع لحواراتٍ جماعية بين سائق كثير الكلام وركّاب عشوائيين.
هنالك قصة في القرآن فكّرتُ بها كثيرًا أثناء أشهري الثمانية الأولى في الحبس الانفرادي. فيها، يلجأ مجموعة من المسيحيين المضطهدين إلى كهف. هم، وكلبهم الذي معهم، دخلوا في نومٍ عميق. واستيقظوا وهم يشعرون بأنهم أخذوا قيلولة قصيرة، لكنها في الحقيقة، دامت 300 عام. إحدى روايات القصة تخبرنا كيف أن أحدهم ذهب لشراء طعام – وأستطيع تخيّل مدى جوعهم بعد 300 عام – واكتشف أن ماله الآن لم يعد يُستَعمل؛ بل يصلح لأن يكون مادة في متحف. حينها أدرك مدى طول المدة التي قضوها غائبين.
قبل ستة أعوام، كان الرابط التشعبي (Hyperlink) عُملتي. نابعًا من فكرة النص التشعبي (Hypertext)، وفّرت لنا الروابط تنوّعًا ولامركزية يفتقد إليها العالم الحقيقي. مثّلت الروابط الروح المنفتحة، والمترابطة للشبكة العالميّة، وهي رؤيا بدأتْ مع مخترعها، تِم بيرنرز لي. كان الرابط التشعبي طريقةً للتخلي عن المركزيّة، عن كل الوصلات والخطوط والتسلسلات الهرمية– واستبدالها بشيء أكثر توزعًا، بنظام من النقاط (Nodes) والشبكات.
جسّدت المدوّنات روح اللامركزيّة تلك؛ فكانت نوافذَ على حياة بشرٍ يندر أن تعرف عنهم شيئًا، وجسورًا ربطتْ حيوات مختلفة بعضها ببعض، وبالتالي غيّرتْها. كانت المدوّنات مقاهيَ يتبادل الناس فيها أفكارهم حول أي موضوع قد يسترعي اهتمامهم، كانت تكثيفًا لسيارات التاكسي في طهران.
مذ خرجت من السجن، أدركت كم تضاءلت قيمة الرابط، وأصبح مهملاً إلى حد كبير. كل الشبكات الاجتماعية تقريبًا الآن تعامل الرابط مثل أي شيء آخر، مثل صورة، أو قطعة من نصّ، بدلاً من رؤيته كطريقةٍ لإغناء النَصّ. يتم تشجيعك لنشر رابط ومن ثم تعريضه لعملية شبه ديمقراطية لحصد الإعجابات أو قلوب الحب أو إشارة الزائد. لا يسمح بإضافة روابط متعددة لقطعة نصٍّ عادة. لقد تم تجميد الروابط وعزلها وتجريدها من قوتها.
في الوقت نفسه، تميل شبكات التواصل هذه لمعاملة صورها ونصوصها المحليّة – أي، أشياء نُشرتْ فيها مباشرةً – باحترام أكبر مقارنةً بتلك التي تكمن في الصفحات خارجيّة. بيّن لي أحد أصدقائي المصوّرين كيف أن الصور التي ينشرها على فيسبوك مباشرة تتلقى عددًا هائلاً من الإعجابات، وهذا بدوره يعني أنها تظهر لدى عدد كبير من الناس في شريط الأخبار (News Feed). بالمقابل، حين ينشر رابطًا للصورة نفسها، الموجودة في صفحة خارج فيسبوك –مدوّنته المهجورة الآن كمثال – فإنها تصبح أقل ظهورًا في فيسبوك نفسه، وبالتالي تتلقّى إعجابات أقل. والدائرة تعيد تعزيز نفسها.
بعض الشبكات، مثل تويتر، تعامل الروابط بصورة أفضل قليلاً. أما باقي الخدمات الاجتماعية المتزعزعة الثقة، مرعوبة بشكل أكبر. إنستغرام – المملوك لفيسبوك – لا يسمح لروّاده بمغادرة موقعه. يمكنك أن تضع رابطًا لصفحة في الشبكة تحت صورتك، لكنها لن توصلك إلى أي مكان. العديد من الناس يبدؤون روتينهم اليوميّ على الإنترنت على هذه المواقع الاجتماعية غير النافذة إلى أي شيء، ورحلتهم تنتهي هناك. الكثير لا يدركون أساسًا أنهم يستخدمون البنية التحتية للإنترنت من أجل الإعجاب بصورة على إنستغرام، أو لترك تعليقٍ على فيديو لأحد الأصدقاء. إنه مجرّد تطبيق.
لكنّ الروابط ليست بمثابة الهيكل للشبكة فقط، إنها عيناها وطريقٌ لروحها. والصفحة العمياء، هي تلك التي تخلو من الروابط ولا تنظر لصفحة أخرى. ولهذا تبعاتٌ خطيرة على ديناميكيّة القوى على الشبكة.
بشكل أو بآخر، فكّر معظم المنظرون بعلاقة التحديق بالقوة، وغالبًا بطريقة سلبية: من يحدّق يعرّي تلك
التي يحدقّ بها، ويحوّلها إلى جماد عديم الحيلة، عديم الذكاء والاستقلال. لكن في عالم صفحات الشبكة، تعمل هذه النظرة بشكل مختلف؛ إنه أداة تمكين. عندما يقوم موقع إلكتروني قوي – لنقل غوغل أو فيسبوك – بالنظر الى، أو بالربط بصفحة أخرى، إنه لا يصلنا بها فقط، إنه يمنحها الوجود، يمنحها الحياة. مجازًا، لولا تلك النظرة الممكِّنة تلك، لن تتنفّس صفحتك. بغض النظر عن عدد الروابط التي تضعها في صفحة، دون أن يكون هنالك من ينظر اليها، إنها في الحقيقة ميتة وعمياء. وبالتالي غير قادرة على نقل قوة لأي صفحة خارجيّة.
في المقابل، أقوى صفحات الشبكة هي تلك يحدق بها الكثيرون. تمامًا مثل المشاهير الذين يحصّلون نوعًا من القوة بسبب ملايين العيون البشرية التي تنظر إليهم في أي وقت، صفحات الشبكة تستطيع تحصيل وتوزيع قوتها من خلال الروابط.
لكنّ التطبيقات من نوع إنستغرام عمياء، أو تقريبًا عمياء. أنظارها لا تتجه إلا إلى الداخل، مانعةً انتقال أي من قوّتها الهائلة إلى الآخرين، مما يؤدي إلى موتهم بشكل هادئ. التوابع هي أن صفحات الشبكة خارج مواقع التواصل تموت.
حتى قبل أن أذهب إلى السجن، كانت قوة الروابط بدأت تُكبح. كان عدوها الأبرز هو فلسفةً جمعتْ بين أكثر القيم السائدة والمبالغ في تقديرها في زماننا: الحداثة والرواج، اللذين تعكسهما هيمنة الصغار من مشاهير العالم الحقيقي. تلك الفلسفة هي السيل (Stream)، أو مجرى المعلومات.
السيل الآن يسيطر على الطريقة التي يتلقى بها البشر المعلومات على الشبكة؛ عدد قليل من المستخدمين يدخلون مباشرة على صفحات متخصصة، بدلاً من ذلك يتلقون سيلاً لا نهائيًّا من المعلومات التي تم اختيارها لهم عن طريق خوارزميات معقدة، وسريّة.
السيل يعني أنك لستَ مضطرًّا لأن تفتح عدة مواقع الكترونية معًا بعد الآن. لست بحاجة إلى عدد من التبويبات (Tabs). حتى أنك لا تحتاج لمتصفّح شبكة. تفتح تويتر أو فيسبوك من خلال هاتفك الذكي وتغوص في الداخل. هذا الجبل قد أتى إليك. الخوارزميات قد اختارتْ كل شيء لك، حسب ما قرأته أو رأيته أنت وأصدقاؤك سابقًا، تتوقع ما قد ترغب بمشاهدته. إنه شعور عظيم ألا تكون مضطرًّا لإضاعة وقتك في إيجاد أشياء تسترعي اهتمامك في العديد من المواقع.
لكن هل نفقد شيئًا هنا؟ ما الذي نقايضه بجودة الأداء التي تحصلنا عليها؟
في العديد من التطبيقات، عملية التصويت التي نغدق بها على الآخرين – الإعجابات، قلوب الحب، إشارات الزائد – هي في الحقيقة متعلقة بالصور الشخصية الظريفة ومنشورات المشاهير أكثر من جوهر ما يُنشَر. من الممكن أن تُرمى مقالة ممتازة لشخص عاديّ المظهر خارج السيل، ينما سخافات المشاهير تتلقى حضورًا رقميًا فوريًا.
ولا تقوم خوارزميات السيل فقط بمساواة الحداثة والرواج مع الأهمية، بل وتميل إلى أن تُرينا المزيد مما أعجبنا في السابق. تقوم هذه الخدمات بمسحٍ دقيق لسلوكنا، وتشذيبٍ لشريط الأخبار بدقة، بمنشورات وصور وتسجيلات تظن أننا قد نميل لمشاهدتها.
إن الرواج ليس شيئًا سيئًا بحد ذاته، لكن له سلبياته. في اقتصاد السوق الحرّ، البضائع ذات الجودة المنخفضة والسعر غير المناسب محكومة بالفشل. لا أحد يشعر بالحزن عندما يُغلق مقهى في بروكلين عمّاله متعجرفون وقهوته رديئة. لكنّ الآراء ليست مثل البضائع المادية والخدمات العامة. إنها لا تختفي إن كانت غير رائجة أو رديئة. في الحقيقة، أظهر لنا التاريخ أن غالبية الأفكار الضخمة (والعديد منها رديء) كانت غير رائجة لفترة طويلة، لكنّ حالتها الهامشية تلك عزّزتْها. إن وجهات نظر الأقليات تصبح راديكاليّة عندما لا يُمكن التعبير عنها والإقرار بوجودها.
السيل اليوم هو الشكل الرئيس لطريقة وسائل الإعلام الرقمية في تنظيم المعلومات. إنه في كل شبكات التواصل وتطبيقات الهواتف. منذ أن نلت حريتي، أرى السيل أينما التفتُّ. أظن أن المدة لن تطول حتى نرى المواقع الإخبارية ترتّب كل محتوياتها حسب نفس المبادئ. إن تأثير السيل لا يكمن فقط بجعل أجزاء كبيرة من الإنترنت متحيزة ضد جودة المحتوى، بل إنها تعني خيانةً عميقة للتنوّع الذي تصوَّرته الشبكة العالمية لنفسها بالأساس.
لا يوجد لدي شك بأن تنوّع المواضيع والآراء على الإنترنت اليوم، أقل مما كان في السابق. لقد قمعتْ شبكات تواصل اليوم أفكارًا جديدة، ومختلفة، ومتحدّية بسبب استراتيجيات الترتيب لديها، التي تفضّل الرائج والمعتاد عليه. (لا غرابة في أن توظف شركة آبل محرّرين بشر من أجل تطبيقاتها الإخبارية) لكنّ التنوّع تم تقنينه بطرق أخرى، ولأسباب أخرى.
بعض تلك الأسباب بصريّة. صحيح أن كل منشوراتي على تويتر وفيسبوك تبدو كأنها مدوّنة شخصية؛ إنها مرتبة بتزامن عكسي [من الأحدث إلى الأقدم]، في صفحة محددة، مع رابط خاص ومباشر لكل منشور. لكنني أمتلك تحكمًا ضئيلاً في شكل صفحتي. إنني لا أستطيع جعلها شخصيّة أكثر. يجب عليها أن تتّبع شكلاً رسميًّا حدّده لي مصممو شبكات التواصل الاجتماعي.
إن مَرْكَزَة المعلومات أيضًا تقلقني لأنها تسهّل فقدان الأشياء. بعد اعتقالي، أغلقتْ خدمة الاستضافة (Hosting service) حسابي، لأنني لم أكن قادرًا على دفع رسومه الشهرية. لكن، على الأقل، كانت لدي نسخة احتياطية من كل منشوراتي في قاعدة بيانات على خادم الشبكة خاصتي. (معظم منصّات التدوين كانت تمكِّنُكَ من نقل منشوراتكَ وأرشيفك إلى مساحتك الشخصية على الشبكة، إلا أن معظمها اليوم لا يفعل). حتى إن لم أقم بنقلها فإنه من المرجّح أن يكون أرشيف الإنترنت قد احتفظ بنسخة. لكن ماذا لو أُغلق حسابي على فيسبوك أو تويتر لسبب ما؟ قد لا تنتهي هذه الخدمات نفسها في أي وقت قريب، لكن ليس من المستحيل أن نتخيّل يومًا تُغلِق فيه الكثير من الخدمات الأمريكية حسابات مستخدميها في إيران، بموجب منظومة العقوبات الحالية. لو حصل ذلك، قد أكون قادرًا على تحميل منشوراتي في بعض هذه الخدمات، ودعنا نفترض أن النسخة الاحتياطية سهلة الاسترداد من منصة أخرى. لكن ماذا عن الرابط الخاص بحسابي على شبكات التواصل؟ هل يمكنني استرداده لاحقًا بعد أن يكون شخص آخر قد امتلكه؟ عناوين الإنترنت تنتقل ملكيّتها من شخص إلى آخر أيضًا، لكنّ إدارة العملية أسهل وأكثر وضوحًا، خاصةً بوجود علاقة مالية بينك وبين البائع مما يجعلك أقل عرضة للقرارات المفاجئة وغير الشفّافة.
لكنّ النتيجة الأكثر رعبًا لمَرْكزة المعلومات في عصر الشبكات الاجتماعية هي شيء آخر: جَعْلُنَا أضعف أمام الحكومات والشركات.
إن الرقابة تُفرض شيئًا فشيئًا على الحياة المدنية، والأمر يسوء مع مرور الزمن. الطريقة الوحيدة للبقاء خارج جهاز المراقبة الكبير هذا قد يكون في الذهاب إلى كهف والنوم فيه، حتى إن لم تستطع أن تنام 300 عام.
أن تكون مراقَبًا هو شيء يجب علينا أن نعتاد عليه ونتعايش معه مؤخرًا، ومن المحزن أن الأمر لا يتعلّق بمكان إقامتي. ما يدعو للسخرية، أن الحكومات التي تتعاون مع فيسبوك وتويتر تعرف عن مواطنيها أكثر من تلك الحكومات التي تمتلك قبضة ضيقة على الإنترنت، مثل إيران، لكنها لا تمتلك ولوجا قانونيًّا إلى شركات التواصل الاجتماعية.
إن ما يخيف أكثر من تعرضك للمراقبة، هو التحكّم بك. عندما يستطيع فيسبوك أن يعرفنا أكثر من آبائنا بناءً على 150 إعجاب، وأكثر من أزواجنا بناء على 300 إعجاب، فإن العالم يبدو قابلاً للتوقّع، من قِبل الحكومات والشركات. والقدرة على التوقّع تعني التحكّم.
إيرانيّو الطبقة الوسطى، مثل معظم الناس في العالم، مهووسون بالصيحات الجديدة الرائجة. ورواج الأشياء دائمًا يسبق جودتها أو درجة فائدتها في سلم أولوياتهم. في بداية الـ2000 كانت كتابة التدوينات تجعلك “كوول” ومواكبًا للصيحات. في 2008، أصبح الحديث عن فيسبوك وبعدها تويتر، ومنذ 2014 غدت الضجة كلها من نصيب إنستغرام، ولا أحد يعلم من التالي. لكن كلما فكّرتُ بهذه التغيّرات، كلما أدركت أن كل مخاوفي ربما وُجِّهتْ في الطريق الخاطئ. ربما أنا قلقٌ من الأمر الخطأ. ربما ليس السبب تمامًا هو احتضار الروابط، أوالمركزية.
ربما، النص نفسه يختفي. أول روّاد الشبكة كانوا يقضون وقتهم بقراءة المجلات الرقمية بعدها جاءت المدوّنات، ثم فيسبوك، ومن ثم تويتر. أما الآن، معظم الناس يقضون وقتهم في مشاهدة فيديوهات فيسبوك وانستغرام وسنابتشات. هنالك تناقصٌ في نصوص القراءة على الشبكات الاجتماعية، وتزايد في فيديوهات وصور المشاهدة. هل نشهد هبوطًا في القراءة على الشبكة لحساب المشاهدة والسمع؟
هل هذه التقليعة مدفوعةٌ بتغيّر العادات الثقافية عند الناس، أم أنهم يتّبعون القوانين الجديدة للشبكات الاجتماعية؟ لا أعلم. إنها مهمة الباحثين، لكنها تمنحني الشعور بأنها تُحيي الحروب الثقافية القديمة. ففي النهاية، بدأتْ الشبكة بمحاكاة الكتب لسنوات، كان النص والنص المتشعب يطغى عليها. منحت محرّكات البحث قيمة كبيرة لتلك الأشياء، وشركاتٌ كاملة، بل احتكارات بأسرها، قامتْ على ظهرها. لكن مع تضاعف أعداد ماسحات الصور، الصور الرقمية، والكاميرات، تتغير حال المحرّكات والشركات. فقد بدأتْ أدوات البحث بإضافة خوارزميات متقدمة للتعرف على الصور، وأموال الإعلانات تنهال على تلك الخاصية.
لكنّ السيل، وتطبيقات الهاتف، والصور المتحركة؛ كلّها تُظهر هجرةً من الإنترنت/الكتاب إلى الإنترنت/التلفاز. يبدو أننا انتقلنا من طريقةٍ غير-خطيّة في التواصل (نقاط وشبكات وروابط) إلى أخرى خطيّة مركزية لها تسلسل بنيوي.
لم يكن مخططًا أن تصبح الشبكة شكلًا من أشكال التلفاز، عندما اُخترعتْ. لكن، شئنا أم أبينا، إنها تتماهى مع التلفاز باطّراد: خطيّة، خاملة، مُبرمجة مسبقًا، ولا ترى خارجها شيئًا.
عندما أدخل فيسبوك فإنني أشغّل تلفازي الخاص. كل ما عليّ فعله هو أن أنزل إلى الأسفل: صور بروفايل جديدة للأصدقاء، آراء قصيرة حول أحداثٍ جارية، روابط لمواضيع جديدة برفقة اقتباسات قصيرة، إعلانات، وطبعًا فيديوهات تلقائية التشغيل. بين حين وآخر أضغط زرّ Like أو Share، أقرأ أو أضع تعليقات للناس، أو حتى أفتح مقالة. لكنني أبقى داخل فيسبوك، ويستمرّ هو في بثّ ما يمكن أن يعجبني. إنها ليست الشبكة التي عرفتها قبل دخولي السجن، ولا هذا مستقبلها. هذا المستقبل هو تلفاز.
أحيانًا أظنّ أنني ازداد صرامة مع تقدمي في العمر. قد لا يتعدّى كل ما ذكرته مجرّد تطوّرٍ طبيعي
للتكنولوجيا. لكنني لا أستطيع أن أتغاضى عما يحصل: تضاؤل في القدرة الثقافية والتنوّع، في ظلّ الإمكانات الهائلة التي من الممكن أن تحتويها الشبكة في زماننا المضطرب. في السابق، كانت الشبكة قوية وجادّة لدرجة أن تسوقني إلى السجن. أما اليوم فهي للتسلية. حتى أن إيران لا تعتبر أجزاء كثيرة منها – مثل إنستغرام – تهديدًا يستحقّ الحجب.
أشتاق إلى الأوقات التي كان الناس فيها يقتطعون من وقتهم لكي يطّلعوا على آراء مختلفة، ويتكبدوا عناء قراءة أكثر من فقرة بسيطة أو 140 حرف. أشتاق إلى الأيام التي كنت أستطيع فيها الكتابة في مدوّنتي الخاصة، أنشر على عنواني الخاص، دون أن أستغرق نفس الوقت في الترويج لها على عدد هائل من الشبكات الاجتماعية، عندما لم يكن هناك من يهتمّ بالإعجابات وإعادة النشر.
هذه هي الشبكة التي أتذكرها قبل السجن. هذه هي الشبكة التي يجب علينا إنقاذها.
[يعاد نشر هذا المقال ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين ”جدلية“ و”حبر“. وكان قد نشر لأول مرة في مجلة ”Medium“ في تموز 2015، ونشرت نسخة من الترجمة العربية في موقع ”قصة الفكر“. ترجمه إلى العربية عمر فارس]